Sabtu, 18 April 2009

كرامات الشيخ عبد العزيز الدباغ

الشيخ الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي
من محاضرة: باب الكرامات المذكورة عند الصوفية

عبد العزيز الدباغ ، يقول أحد مريديه: ' إنَّني ذهبتُ لزيارته، وكانت إحدى زوجاتي حاملاً، فتحدثتُ معه في شأنها، فقال لي: إنَّها تلدُ ولداً ذكراً اسمه أحمد، فمكثتُ ثلاثة أشهر، فذهبتُ لزيارته فقال: حملتْ زوجتُك؟
فقلت: لا أدري يا سيدي، فقال: إنَّها حامل منذ خمسة عشر يوماً، وهو ذَكَر إن شاء الله تعالى! فسمِّه باسمه وهو يشبهني!! إن شاء الله تعالى، فلمَّا رجعتُ أعلمتُ الزوجة بما قال، وفرحتْ، ثمَّ ولدتْ ذكراً كما قال رضي الله عنه، وهو أشبه النَّاس به بشرة !! '
ومنها: ' أنَّ الزوجة الأولى حملت ثانيةً، فسألتُ عن حملها، قال لي: بنت، وسمِّها باسم أمِّي!! '
وكثير مِن الكرامات عن هذا الدباغ في الأولاد؛ أنَّه يعرف الذكور مِن الإناث، ويضع لهذا ذكوراً، ولهذا إناثاً -والعياذ بالله-.
Sumber: http://www.alhawali.com/index.cfm?method=home.SubContent&ContentID=3901#Alam1002454

مُخْتَصَر الفَوَائِدُ الجَلِيّةُ في تَاريخ العَائلة السَنُوسِيَّة

لمؤلفها وجامعها: عبد المالك بن عبد القادر بن علي
1386 هجري - 1966 ميلادي

تصنيف – صلاح عبد العزيز
1428 هجري – 2007 ميلادي

طبعة إلكترونية منقحة

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المُختَصِر

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.. وأفضل الصلوات على نبي البركة والرحمات محمدٍ سيد البريات صاحب الشفاعة والكوثر المُنادى يوم المحشر "يا محمد ارفع رأسك.. وسل تُعط .. ساكب العبرات لهفاً على أمته" يا ربيِ أُمتي ... يا ربِي أُمتي" صلي اللهم وبارك عليه وعلى آل بيته الأطهار والصحب الكرام الأخيار وسلم تسليماً كثيرا.. ثم أما بعد.

لما رأيت أن شمس الحق لا يمكن أن يُحجبها غربال، وأن تاريخ الأمم والشعوب هو صفحة الخلود لمجد الآباء والأجداد ... قلبت في صفحات ماضينا القريب، فإذا به قد سطرته دماءُ زكية استرخصت أرواحها في سبيل رب البرية، وسيرة رجال أشاوس طلقوا الدنيا وطول الرقاد في سبيل حماية الوطن من كلِ عاد .. فأضحت سيرتهم نوراً وسراجاً منيرا للنشء والأحفاد.

هذا وقد شرح الله صدري لمطالعة سير الأبطال وتراجم الرجال فإذا بي أمام سيرة رجل عاش لربه طائعاً .. وعن حمى دينه ووطنه ذائداً .. وحسبك أن تأخذ سيرة الصالحين ممن عاصرهم .. بل عايشهم ورافقهم، فصاحب هذا الكتاب الذي بين يدي هو الشيخ (عبد المالك بن عبد القادر بن علي الدرسي) وقد نقل لنا صورة حية عن شخصية ذلك المجاهد البطل والذي لقبه في كتابه برئيس المجاهدين .. إنه السيد (أحمد الشريف السنوسي) حفيد مؤسس الحركة السنوسية في ليبيا المصلح المجدد الإمام (محمد بن علي السنوسي الحسني) ولقد بذل المؤلف جهداً لا نملك حياله إلا أن نقول: جزاه الله خيراً عن كل حرف سطره يراعه لينقل للجيل القادم أمجاد الأجداد وجهادهم الذي أوصل الوطن لنيل عزته واستقلاله.

ويجدر بي في هذا المقام أن أرجع فكرة نشر هذا السفر التاريخي القيم للأخ الأستاذ (هشام بن غلبون) والذي أهداني نسخة من الكتاب بهدف توثيقه في الشبكة العنكبوتية العالمية، والدّال على الخير كفاعله.

أهمية الكتاب

تكمن أهمية كتاب (الفَوَائِدُ الجَلِيّةُ في تَاريخ العَائلة السَنُوسِيَّة) في احتوائه على ترجمة لحياة مؤسس الحركة السنوسية الإمام (محمد بن علي السنوسي) والذي تعرضت سيرته للتهميش والتشويه والإهمال، وحسبنا أن نقف على شهادة واحد من أشهر علماء عصره وزمانه العالم الإمام (أحمد بن إدريس العرائشي). هذا في القسم الأول من الكتاب، أما الجزء الثاني فقد اشتمل على سيرة السيد (أحمد الشريف السنوسي) والذي حفلت حياته بمواقف البطولة والفداء على المستوى الليبي الوطني الذي لم يكن في منأى عن الولاء للخلافة الإسلامية في عاصمتها "أسلام بول – استانبول" ثم الواجب الذي أخذه على عاتقه تجاه أمته الإسلامية، فقد شد من عزيمة الجيوش العثمانية في حربها ضد القوات اليونانية المحتلة في الأناضول حتى كتب الله لها النصر .. وعاصر السيد احمد الشريف أكبر مصاب على يد القائد العسكري "مصطفى كمال أتاتورك" والذي قلب له ظهر المِجَّن معلناً سقوط الخلافة الإسلامية ورفع شعار العالمانية !! ثم ينتهي المُقام بالسيد الشريف بجوار جده المصطفى محمد بن عبد الله بالمدينة المنورة قائماً بالدعوة إلى الله ومؤدياً دور الإصلاح بين الزعامات السياسية المتنازعة في تلك الحقبة التي مرت بها الأمة العربية والإسلامية.

دوري في الكتاب

حاولت جهدي أن أقوم بإلإختصار غير المُخِل لمحتويات النسخة الأصلية للكتاب، وإعادة صياغة بعض عباراته، والتركيز على ما اختص من أحداث بالشأن الليبي قدر المستطاع.

وأخيراً .. إذا كان المؤلف (عبد المالك بن عبد القادر بن علي الدرسي) قد أتم الكتاب في حضرة النبي المصطفى العدنان في المدينة المنورة حيث حط الرحال مع شيخه الضرغام (أحمد الشريف السنوسي) نزيل طيبة ثُم البقيع ..فإني أبتهل إلى مولاي أن ييسر لي نُزلاً في الحياة قبل الممات بجوار صاحب الوجه الأنور سيدنا رسول الله وأن يرزقنا شفاعته يوم المحشر والورود على حوضه والكوثر. وغايتي في تصنيف هذا الكتاب إماطة اللثام عن كل ما اكتنف سيرة و شخصية مؤسس الحركة السنوسية من لبس أو إبهام... وأن أفي حق العالم المجاهد الجليل (أحمد الشريف السنوسي) وأنقل سيرة بطل جهلها الأكثرون .. وأراد طمس معالمها أناسٌ آخرون. (لقد كان في قصصهم عبرةٌ لأولي الألباب) والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.


صلاح عبد العزيز
سويسرا - 1428 هجري – 2007 ميلادي


بِسْمِ الله الرَحمن الرَّحِيم

مقدمة المؤلف
الحمد لله الذي أوجد الخلق من العدم. وجعلهم شعوباً وقبائل وأُمم. والصلاة على الشفيع الأعظم سيد العرب والعجم سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

وبعد. أتقدم إلى حضرات القراء الكرام بهذه العجالة المختصرة من تاريخ العائلة السنوسية الكريمة مجزأة إلى جزأين الأول منهما يشتمل على ترجمة حياة عميد العائلة ومؤسسها العظيم (السيد محمد بن علي السنوسي) من حين نشأته إلى وفاته وكل ما يتعلق برحلاته وتنقلاته وأعماله العظيمة الخالدة كما يشتمل على شيء يسير من تراجم حياة ابنيه الكريمين الإمامين العظيمين السيد (محمد المهدي السنوسي) وشقيقه السيد (محمد الشريف السنوسي). والجزء الثاني يتعلق بذكر حياة الرجل الصالح والبطل المكافح رئيس المجاهدين وقاهر الكفرة المعتدين والذَّاب عن الإسلام والوطن الفاني في حب الله والمجاهد في سبيل الله السيد (أحمد الشريف السنوسي). جمعتها وسميتها (الفوائد الجلية في تاريخ العائلة السنوسية) وذلك لما رأيت أن أكثر الناس يجهلون حقيقة هذه العائلة المباركة ومبادئها الثابتة ومقاصدها الحسنة ويخوضون فيها بأمور شتى ويتلقفون عنها أخباراً وروايات تُنسب إليها متضاربة وملفقة ينقلونها ويروونها صحيحة ومكذوبة ويجهلون أصل النشأة وبدايتها وما قام به مؤسسها العظيم وحفدته الكرام من الأعمال النافعة للدين والوطن والبشرية جمعاء ويؤولون أفعالهم و جهادهم وطريقهم كل على حسب ميوله لهم وعليهم فاحتسبت أجري عند الله وبادرت بتسويد ما يطلع عليه حضرة القارئ الكريم معتمداً في ذلك على الله ومتحرياً فيما جمعته ذكر الحقائق، وتاركاً ذكر ما لم يتحقق أو في ذكره ما يوجب اعتراض الخلق خصوصاً في هذا الزمن الذي تغيرت فيه المشارب و كثرت فيه الفتن وأصبح أكثر أهله لا يؤمنون برب ولا كتاب ولا يخافون من حساب أو عقاب. ليستزيد منه المحب الصادق ويستفيد منه الباحث الحاذق واستمد التوفيق والعون من الذي يقول للشيء كن فيكون.

المؤلف

(مبدأ اسم السنوسي)

أول من عُرف بهذا الاسم أحد الأئمة الهُداة الذين رفعوا لواء السُنة الغرّاء وحملوا مشعل العلم الشريف وأناروا طريقه لطلابه، الإمام السيد محمد بن يوسف السنوسي صاحب العقائد السنوسية في التوحيد، كان في زمانه حُجة ولعلمائه قُدوة ونال من الصلاح درجة عالية وشهد بفضله الخاص والعام، لذلك تبركاً باسمه سَمَّى بعض الناس أبناءهم باسمه وقد تربى هذا السيد الجليل ما بين قبيلة بني اسنوس وكلمة اسنوس مشتقة من اسم جبل أسنوس الذي يبعد عن بلدة تلمسان (بلدة بالجزائر) بمسافة يوم تقريباً وكان يسكن بهذا الجبل فخذ من قبيلة بربرية يُقال لها (كوميه) وأطلق على هذا الفخذ الساكن بالجبل اسم بني أسنوس .. ووُلِد السيد محمد بن يوسف بينهم وكبر واشتهر بالسنوسي نسبة إليهم وهو ليس منهم وفيما بعد درج الناس على التسمية باسمه وكان ممن سُميّ باسمه ابنٌ للجد الرابع للسيد محمد بن علي السنوسي سمّاه والده السيد عبد القادر بن السيد أحمد شهيده (محمد السنوسي) فكبر وتعلم و نال أيضاً من الصلاح والعلم والزهد والتقوى درجة رفيعة حتى كان إمام وقته و حافظ عصره وأُطلق عليه إمام المفسرين والمُحدثين في زمانه وهو أول من تسمى بالسنوسي في سلسلة آل خطاب الأشراف وتوفي هذا السيد الجليل في تلمسان ودُفن بها ولم يعقب خلفاً إلا أن أبناء إخوته بعده درجوا على تسمية أبنائهم باسمه حتى سُمي به السيد السنوسي جد السيد محمد بن علي السنوسي صاحب الترجمة.

(نسب السيد محمد بن علي السنوسي)

فهو محمد بن علي بن السيد السنوسي بن العربي الأطرش ابن محمد بن عبد القادر بن أحمد شهيده بن محمد شائب الذراع بن يوسف أبو ذهيبة ابن عبدالله بن خطّاب بن علي أبو العسل بن يحي بن راشد بن أحمد المُرابط بن منداس بن عبد القوي بن عبد الرحمن بن يوسف بن زيّان بن زين العابدين بن يوسف بن الحسن بن إدريس بن عبدالله بن أحمد بن محمد بن د عبد الله بن حمزة بن سعيد بن يعقوب بن داوود بن حمزة بن علي بن عمران بن إدريس الأزهر (الأصغر) أمير المسلمين وباني مدينة فاس بن الإمام إدريس الأكبر أول ملوك السادة الأدارسة بالمغرب بن عبدالله الكامل بن الحسن المُثنى بن الإمام الحسن السبط بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه وفاطمة الزهراء بِضعة المصطفى سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرف و كرم وعظم.

(ولادة الإمام محمد بن علي السنوسي ونشأته)

كانت ولادته صبيحة يوم الاثنين 12 - ربيع الأول - 1202 هجري - الموافق – 21 ديسمبر – 1787 ميلادي. عند طلوع الفجر ولذلك سماه والده محمداً تيمناً باسم جده المصطفى صلى الله عليه وسلم وكانت ولادته بضاحية (مَيْثَا) الواقعة على ضفة وادي شِلْف بمنطقة الواسطة التابعة لبلدة مُستغانم الجزائرية مقر أجداده السادة آل خطّاب وكان من قضاء الله وقدره أن تُوفي والده وعمره سنتان فقط كما أعقبته والدته بقليل و تركاه صغيراً فتولت كفالته عمته المصونة السيدة فاطمة الزهراء بنت السنوسي بن العربي بوصية من والده أخيها علي... وكانت عمته هذه من أشهر السيدات في عصرها علماً وأدباً وزهداً وصلاحاً وتقوى... وكانت تتصدر للإفادة والتدريس والإرشاد حسبما يحله الشرع الشريف كما كان يقصدها طلاب العلم الشريف من بلدان بعيدة للأخذ عنها والاستفادة منها.. فكانت خير مرشدٍ له ومربٍ وعندها حفظ القرآن الكريم و شيئاً كثيراً من المتون في علوم شتى.

(شيوخه في القرآن)

أولهم زوج عمته محمد بن قعمش الصغير الظهراوي وابنه عبد القادر وكانا عالمين جليلين صالحين ويشاركهما في تحفيظه القرآن محمد بن الخلفة ثم توفيت عمته وزوجها وبنوها ومحمد بن الخلفة في طاعون عام 1209 هجري – 1794 ميلادي. وعمره لم يتجاوز السابعة فكفله محمد السنوسي بن عمه عبد القادر بن السنوسي وذلك بإذن عمه المذكور عبد القاهر شقيق والده علي السنوسي فتمم على ابن عمه هذا حفظ القرآن الكريم برواياته السبع مع ما يلزمه من علم رسم الخط للمصحف والضبط كما قرأ عليه الرسالات الآتية: مورد الظمآن، المصباح، العقيلية، الندى، الجزرية، الهدية المرضية في القراءة المكية، حرز الأماني للشاطبي، وغيرها مما هو من وظائف قارئ القرآن وظهرت عليه النجابة كما تنبأت له بذلك جدته لوالده السيدة فاطمة وكانت من الصالحات الكبار أيضاً ثم بعد أن أتم ما يلزمه من لوازم حفظ القرآن وإتقانه شرع له ابن عمه هذا في العلوم العربية أولاً ثم الدينية بالتدرج دون أن يرهقه أو يدخل عليه شيئاً من السآمة أو الملل مع حضه له على العمل بما يتعلمه والتمسك بالسنة المطهرة دونما تفريط أو مغالاة، وسلوك مسلك أجداده العظام والتأسي بهم في الحـقير والجليل مع تحذيره له من كل ما يبعده عن الله و ترغيبه له في كل ما يقربه منه وكان يزوده بنبذ صالحة مفيدة عن سيرة أجداده الأئمة الأعلام وأعمالهم المجيدة ودرجاتهم الرفيعة وكيف نالوها حتى اشرأبت روحه الطاهرة إلى الأعمال الصالحة واطمأنت نفسه الكريمة إليها مع ترغيبه له على موالاة طلب العلم وحثه عليه و مساعدته له حتى نال منه قسطاً وافراً قَلّ مَنْ ناله في مثل سنه على ابن عمه هذا في مستغانم و اختار الله هذا السيد الجليل إلى جواره الكريم بعد أن هيأ ابن عمه تهيئة صالحة مُرضية و كان سنه قد بلغ السابعة عشر سنة 1219 هجري – 1804 ميلادي. فجلس بعد ابن عمه يتلقى العلم على شيوخه في مُستغانم.

( شيوخ الإمام محمد بن علي السنوسي في مُستغانم )
منهم الشيخ الجليل محيَّ الدين بن شلهبه ، و الشيخ محمد بن أبي زوينه ، و الشيخ عبد القادر بن عمور المستغانمي ، و الشيخ محمد القندوز ، و محمد بن عبد الله المستغانمي ، و الشيخ أحمد الطبولي الطرابلسي ، و كلهم من فطاحل العلماء في زمانهم .. حيث مكث الإمام السنوسي يطلب العلم في مستغانم سنتين كاملتين .

( شيوخه في ما زونه )
و في أول عام 1221 هجري – 1806 ميلادي ، خرج من مستغانم إلى بلدة مازونه و مكث بها سنة واحدة حيث أخذ فيها عن هؤلاء الشيوخ و هم العلاّمة الجليل الشيخ محمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الشارف المازوني ، و الشيخ السيد أبو رأس العسكري ، والشيخ الوليد أبو المهل أبو زوينه ذي السند العالي و غيرهم ، ثم والى رحلته إلى مدينة تلمسان و مكث بها أيضاً ما يقارب من السنة و أخذ العلم عمن وجده فيها من شيوخها و بهذه البلدة مقام ابن جده الرابع السيد محمد السنوسي و الذي ينتسبون إليه تباعاً و يتسمون باسمه .. و في أواخر عام 1223 هجري – 1809 ميلادي . رحل الإمام السنوسي إلى مدينة فاس المعمورة و بها مقام جد الأشراف الأدارسة السيد إدريس الأنور ( الأصغر ) و هو الذي بنا مدينة فاس . أمّا والده السيد إدريس الأكبر فهو في مدينة ( وُلِيْلِي ) قاعدة جبل زرهون.. فمكث في مدينة فاس سبع سنوات متوالية ، يطلب خلالها العلم في مسجد القرويين المُضاهي للجامع الأزهر بمصر.

( شيوخه بفاس )
و شيوخه بفاس هم الشيخ حمدون بن الحاج ، و الشيخ الطيب الكيراني ، و الشيخ أبو بكر بن زيان الإدريسي الجوطي ، و الشيخ أبو العلاء إدريس العراقي و ابنه عبد الرحمن ، والشيخ محمد بن أبي بكر اليازعي ، و الشيخ محمد بن عامر المعداني ، و الشيخ محمد بن محمد بن عبد السلام بنّاني ، و الشيخ أحمد بن المكي السدراتي شارح الموطأ ، و الحافظ محمد بن عبد السلام الناصري و ابنه محمد المدني و الشيخ محمد بن منصور والشيخ محمد الزروالي ، و الشيخ العربي بن محمد . و كان خلال هذه السبع سنوات يدْرُس و يُدّرِّس حتى فاق من وجده من الشيوخ و العلماء و أقر له الجميع بأنه فريد وقته و زينة عصره و أنه ممن ستفتخر بهم الأمة المحمدية كما رُشِح لمشيخة جامع القرويين رغم صغر سنه الذي كان لا يتجاوز ( 30 سنة ) فقط و لكنه لم يقبل هذا التقيد . و بعد أن نهل من معين شتى العلوم العقلية و النقلية و أخذها عن عموم مشايخ عصره في الديار المغربية و إجازتهم له بما لديهم ، و أخذه عن السادة الصوفية كالشيخ أحمد التِجاني المتوفي في شوال سنة 1230هجري – سبتمبر – 1815 ميلادي . و الشيخ محمد بن عبد السلام الناصري المتوفي في صفر سنة 1239 هجري - أكتوبر – 1823 ميلادي ... و غيرهم .

( رحلته الأولى إلى الشرق العربي )

تاقت نفسه العالية إلى الإزدياد من تلقي العلوم على العلماء بمصر و الحرمين الشريفين كما تشوق لأداء فريضة الحج.. فخرج من بلدة فاس رأساً مع ركب الحجاج عام 1230 هجري – 1815 ميلادي . و لم يتخلف عن ركب الحجاج حتى مكة و حج آخر عام 1230 هجري – ديسمبر – 1815 ميلادي . و مكث بها طيلة عام 1231 هجري يتلقى العلوم على أكابر شيوخ و علماء العصر بمكة .
( شيوخه بمكة )
منهم الشيخ عمر بن عبد الكريم بن عبد الرسول العطار المكي و الشيخ عبد الحفيظ العجيمي و الشيخ محمد عابد السندي و الشيخ حسن بن عبد الله العطّار و الشيخ عبد الرحمن بن يوسف المدني و الشيخ ياسين المرغني و الشيخ محمد صالح الرئيس و الشيخ محمد السلمي الشافعي و الشيخ محمد البناني و الشيخ محمد القابسي المالكي و الشيخ محمد الهدبيني و الشيخ محمد بن عبد الله الفخري .
( شيوخه من أهل المدينة )
الشيخ صالح البدري ، و الشيخ عبد الرحمن الأنصاري ، و الشيخ محمد سفر بن محمد سفر مُسند الحجاز و راويه ، و الشيخ عبد الباقي الشعّاب ، و الشيخ محمد بن الحاج المغيربي ، و الشيخ محمد بن عبدالله المجدوب .
( و من أهل اليمن )
السيد يوسف البطاح الأهدل ، و الشيخ يوسف الأمير الصنعاني و الشيخ محمد العمراني الصنعاني ، و الشيخ محمد بن سليمان قاضي مخا ، و الشيخ محمد بن سليمان الأهدل قاضي زبيد ، و السيد الحازمي ، و الشيخ محمد عاكش الصبياني .
( و من الوافدين إلى الحرمين )
الشيخ أحمد بن عبد الرحمن الشريف الحسني ، و الشيخ أحمد بن عبد الله الشريف الجزيري ، و الشيخ محمد البشير البجاوي التلمساني ، و لم يُكتب لسيادته الإجتماع بالإمام العظيم السيد أحمد بن إدريس العرائشي حيث كان السيد أحمد في هذه السنة قد خرج من مكة إلى الصعيد بمصر و في نهاية عام 1231 هجري – نوفمبر – 1816 ميلادي . حج و رجع أول عام 1232 هجري صحبة ركب الحجاج إلى مصر و مكث بها بقية عام 1232 هجري – نوفمبر – 1817 ميلادي . يتلقى المزيد من العلوم على بعض خواص العلماء بها .
( شيوخه بمصر )
أولهم الشيخ علي الميلي التونسي ، و الشيخ ثعيلب الضرير ، و الشيخ محمد الصاوي من المالكية ، و الشيخ العطار و القويني و النجار من الشافعية ، و الشيخ محمد الأمير الصغير.
(( عودته إلى فاس ))
و في أول عام1233 هجري - نوفمبر – 1817 ميلادي . خرج ( من القاهرة ) صحبة ركب الحجاج و رافقهم عائداً إلى فاس و مكث بها مدة لا تزيد على الستة أشهر و هنا هيأه الله للنفع و الإرشاد و نفع العباد بدلالاتهم على الله فخرج من مدينة فاس أواخر عام 1233 هجري – أكتوبر – 1818 ميلادي . و توجه رأساً إلى مدينة الأغواط الواقعة في آخر الحدود الجزائرية من جهة الصحراء الكبرى و هذه البلدة هي مفتاح الصحراء الكبرى وهي ملتقى هام لكل من يأتي إلى صحراء شنقيط من مراكش و الجزائر فجلس فيها ما يقرب من نصف سنة تصدى خلالها للتدريس و الوعظ و الإرشاد حتى استفادت منه أممٌ كثيرة و تعلقوا به ، و ممن أخذ عنه بالأغواط و رافقه تلميذه الخاص و كبير إخوانه على الإطلاق الشيخ عبد الله التواتي دفين بدر .
(( عودته إلى مستغانم ))
ثم حنَّ إلى موقع رأسه الشريف فرجع إلى مستغانم أول عام 1234 هجري – ديسمبر – 1818 ميلادي. و مكث بها قريباً من سنة و نصف بين أهله و عشيرته و أقاربه و تزوج خلال هذه المدة و أنجب مولوداً و تُوفي صغيراً كما توفيت والدته بعده فخف حِملُهُ رضي الله عنه و عَنَّ لسيادته القيام برحلة إلى المشرق لموالاة الوعظ و الإرشاد و نفع العباد و نشر العلوم المفيدة و الدعوة إلى الله بالطريقة الحقيقية... فخرج من مستغانم رغم تعلق أهله و عشيرته به بغية بقائه بينهم غير أن نفسه الكبيرة الطموحة أبت عليه ذلك فتوجه و واصل سفره إلى بلدة جلفه منتصف عام 1235 هجري – مايو – 1820 ميلادي . و مكث بها قليلاً ثم والى رحلته إلى ( أبو سعادة ) و منها إلى حدود تونس ثم واصل رحلته إلى قابس في الأراضي التونسية و بعد إقامته بها يسيراً عطف على مدينة تونس و مكث بها مدة أسابيع قلائل و دخل مسجد الزيتونة بتونس و أخذ عن بعض كبار علمائها و تردد عليهم كما أخذ عنه بعضهم و طلبوا منه إلقاء بعض الدروس فلّبى طلبهم .
( الإمام السنوسي في طرابلس )
و في آخر عام 1235 هجري – سبتمبر – 1820 ميلادي . توجه إلى مدينة طرابلس الغرب فدخلها في آخر هذا العام و كان ذلك إبّان حكم ( يوسف باشا القرمانلي ) في شهر - أكتوبر – 1820 ميلادي .(1)
وقد استقل ( يوسف القرمانلي ) عن الدولة العثمانية فأكرم نزله و مكث في مدينة طرابلس و ضواحيها مدة للوعظ و الإرشاد و نفع العباد و لم يترك مسجداً معروفاً إلا دخله و درّس فيه و أرشد ، و كان أغلب نزوله و إقامته عند الشيخ ( أحمد باشا المنتصر ) الذي تعرف عليه و تعلق به و أصبح هو و أبناؤه فيما بعد هم النائبون عنه في طرابلس و نالوا بذلك خيراً كثيراً و أحمد باشا المنتصر هو جد الشاعر الأديب الأستاذ ( أحمد ضياء الدين بن عمر باشا بن أحمد باشا المنتصر ) ، و والى رحلته إلى بلدة ( ازليتن ) بلاد الأشراف الفواتير و المدفون بها الولي الكبير الشيخ عبد السلام الأسمر رحمه الله فمكث فيها و درّس في مسجد الشيخ مدة من الزمن ثم تقدم إلى بلدة ( مصراته ) و بها المشايخ السادة المحاجيب و مقام الشيخ ( أحمد الزروق ) رحمه الله فنزل عند السادة المحاجيب في زاويتهم المعروفة هنالك و أقام في مصراطه زيادة عن السنة و جملة مدة إقامته ما بين طرابلس و ازليتن و مصراته سنتان قضاها في الوعظ و الإرشاد و الدعوة إلى الله و لذلك سبقت العناية لأهل تلك الجهة و تعلقوا بسيادته و جُل إخوانه الأولون و من عليهم المعول في الحضرة السنوسية من مصراته و ازليتن و مقاطعات طرابلس و هم " آل المحجوب و آل الأشهب و آل الدردني و آل السيد عمران بن بركة و آل بوسيف و آل بن فرج الله " و ..... غيرهم . و دخل الخلوة في زاوية السادة المحاجيب و درّس فيها .
( مناسبة ) كان السيد رحمه الله في غاية من الجمال الخَلقي فضلاً عن الخُلُقي و كان في عنفوان شبابه و صادف أن كان يوماً من الأيام يُلقي درساً في زاوية السادة المحاجيب هذه و كان من بين المستمعين رجلٌ ذو مكانة يُحدِّق بنظره إلى السيد طيلة الدرس و خطر في باله أن هذا الجمال الفائق لا يسلم من كونه وقع منه أو عليه و وسوس له الشيطان أموراً معروفة.. فبعد أن أتم الدرس و قام الحاضرون حسب العادة المتبعة يسلمون على يده الشريفة للإنصراف.. و أتى هذا الرجل للتسليم عليه فقبض على يده و أجلسه بجنبه حتى خرج الناس ثم التفت إليه و قال له : يا أخي إن الذي حفظنا في الكِبَر حفظنا في الصَغُر فخجل هذا الرجل و عّدّ أن هذه كرامة لهذا السيد الجليل عظيمة.

حاشية : عائلة القرمانلي بطرابلس الغرب
في سنة 1123 هجري – 1711 ميلادي . وثب المدعو أحمد بك القرمانلي أحد جنود الانكشارية - و معنى الانكشارية ( الغزاة العثمانيون ) - على والي طرابلس الغرب المُسمى ( محمد أميس ) فعزله بمساعدة الجنود و تولى الحكم في طرابلس الغرب بدله.. و كانت في أحمد القرمانلي جرأة و حسب للعدل و الإنصاف فتحبب إلى الجند و الأهالي و بذل جهوداً كبيرة في الإصلاحات العامة و أول عمل اشتهر به هو محاربته لخليل باشا الذي كان قدم من الأستانة والياً لطرابلس بأمرٍ سُلطاني.. فتنكر له أحمد القرمانلي و منعه من دخول البلدة فدارت بينهما حروب شديدة قُتل في آخرها خليل باشا و فر من بقي ممن معه بأسطولهم و رجعوا إلى الأستانة فغضب السلطان ( أحمد الثالث ) بن محمد بن إبراهيم الذي كان مشغولاً في وقته بمحاربة الروس و النمسا.. فأرسل المُسمى ( محمد باشا جانم خوجه ) للتحقيق في موضوع قتل خليل باشا فقابله أحمد القرمانلي و أخفى عليه كل شيء و منع الناس من مقابلته و في نفس الوقت أكرمه فرجع دون أن يتحصل على نتيجة .. و استمرت ولاية أحمد القرمانلي فأتاه فرمان من السلطان أحمد المذكور و بذلك تمت ولايته و نفذت كلمته .. ثم ثار عليه أهالي بلدة تاجورا و أهالي مسلاته و شقوا عصا الطاعة .. فحاربهم حتى أذعنوا و رجعوا إلى طاعته و الانصياع لأمره ..و في زمن ولاية أحمد القرمانلي ثار المدعو ( علي بن عبد الله بن عبد النبي الصنهاجي ) و عاث في الأرض فساداً ثم توجه إلى جهة برقة و الجبل الأخضر فنهب خراج واحة ( أوجلة ) و أتعب الأهالي.. فأرسل إليه أحمد القرمانلي قوة من جيشه و التقى الجمعان و دارت الحرب بينهم فكان النصر حليف قوات القرمانلي .. و قُتِل ( الصنهاجي ) مع أغلب أتباعه.. و في نفس السنة عقد أحمد القرمانلي لأخيه الحاج شعبان آغا و ولاه على برقة و الجبل الأخضر وبعث معه قوة عسكرية يرأسها المدعو ( إبراهيم الترياكي ) و معه الشيخ ( علي الأدغم ) و بعد مدة من الزمن خرج قائد الجيش " إبراهيم الترياكي " عن طاعة ( الحاج شعبان ) و قبض عليه في بلدة درنة و ساعده في ذلك الشيخ " علي الأدغم " ثم رجع الإثنان من بلدة درنة متوجهين إلى الجبل الأخضر و منه إلى بنغازي مروراً بسرت و مصراته و كلما مروا بقبيلة أو بلاد طالبوها بمتابعتهم و غرضهم هو خلع ( أحمد باشا القرمانلي ) .. فلما قربوا من مدينة طرابلس خرج إليهم القرمانلي و حاربهم و شتت شملهم و استولى على كل ما معهم.. فشرد الأدغم إلى أرض مصر .. و أما الترياكي فقد هرب إلى قبيلة المحاميد و جمع أوباشاً معه و عاد ثانياً إلى الفساد ..فأرسل إليه أحمد القرمانلي قوة بقيادة ( إبراهيم بك ) فحاربه حتى قضى عليه و على من معه.. و بهذه الإنتصارات قويت شوكة أحمد القرمانلي و علا صيته بين المدن و القبائل ..و فعلاً أجرى إصلاحات هامة في مدن طرابلس ..فبنى المساجد و المدارس و القلاع.. و دامت ولايته 35 عاماً .. وكانت وفاته سنة 1158 هجري – 1745 ميلادي .. و كان أثناء فترة حكمه قد طلب فرماناً من الباب العالي بتولية ابنه ( محمد باشا ) بعده.. فتولى محمد باشا القرمانلي بعد أبيه أحمد و كانت البلاد مهددة و لم يحدث في عهده تشويش إلا أنه غلط و عقد معاهدة مع الإنجليز بدون إخبار أو وساطة الباب العالي.. و اجتهد في تقوية أسطوله الحربي ..فقوي و كانت له هيبة عظيمة في حوض البحر الأبيض و دامت ولايته تسعة أعوام ثم تُوفي سنة 1167 هجري – 1754 ميلادي. فتولى بعده ابنه ( علي باشا القرمانلي ) فسار بسيرة جده أحمد و ضبط البلاد و حال دون الفساد و استراحت الناس مدة من الزمن ..ثم في آخر ولايته مال إلى الراحة و أهمل البلاد ..فكثر فيها الفساد و النهب و السلب و ساءت الحالة جداً فاضطر بعض الأهالي إلى الشكوى و رفع الأمر إلى الباب العالي لإغاثتهم بمن يقوم بأمر البلاد ..

جبروت يوسف القرمانلي و طغيانه

سمع ( يوسف بيك ) أصغر أولاد على باشا القرمانلي بأمر الإستغاثة بالباب العالي و خشي أن يأتي ضابط من الأستانة فيأخذ منهم الولاية .. فقصد الشيخ ( خليفة بن عون المحمودي ) شيخ قبيلة ( النويرات ) و طلب منه معاضدته للوصول إلى الحكم .. و عزل والده لأنه كبر و أصبح عاجزاً عن القيام بأمور الولاية.. فوافقه ( المحمودي ) و جمع جموعه و أتى معه لحصار مدينة طرابلس... و لما وصل يوسف القرمانلي القلعة دخل على أخيه ( حسن بيك ) ليقتله فمنعته أُمه.. فقطع يديها و قتل أخاه و شدد الحصار على والده !!! و في هذه الفترة قدم من الأستانة ( علي بُرغل باشا ) والياً لطرابلس بأمر السلطان العثماني .. و فوجئ يوسف بيك بوصول (علي بُرغل باشا ) كما أسقط والده المُحاصر في يده .. و فكروا في محاربة القادم ... و لكنهم وجدوا أنفسهم غير قادرين على محاربته.. فقرروا الخروج جميعاً من طرابلس هاربين إلى تونس و في صحبتهم الأخ الأكبر ( أحمد بيك القرمانلي ) فأكرمهم والي تونس ( حموده باشا ) و بعد مضي فترة من الزمن أرسل والي طرابلس ( علي برغل باشا ) حملة إلى بلدة ( جِربة ) فاستولى عليها.. و قد كانت تابعة لولاية تونس فغضب والي تونس حموده باشا و جهز حملة كبيرة و أرسلها لمحاربة ( علي بُرغل باشا ) و أرسل مع الحملة أبناء (علي باشا القرمانلي ) يوسف بيك و أحمد بيك فخرجت الحملة من تونس و كلما مرت ببلدة أو قرية أو قبيلة هددتها بالحرب إن لم تستسلم و تذعن لأمرهم ..

وصلت الحملة إلى ولاية طرابلس و اشتدت الحرب فيها بين الفريقين ثم أحس ( علي برغل ) بالهزيمة فشرد و ترك الولاية و عمد إلى مصر و سُلِمت البلد لقائد الحملة ( مصطفى خوجه ) و قد نصب مصطفى خوجه بدوره أكبر أولاد علي باشا القرمانلي ( أحمد بيك ) والياً لطرابلس و بذلك عادت ولاية طرابلس لآل القرمانلي .. و لم تدم ولاية ( علي برغل ) إلا سنتين فقط .. ثم نصب مصطفى خوجه أيضاً يوسف بك القرمانلي أميراً للعُربان تابعاً لأخيه أحمد بيك.. فدامت ولاية أحمد بيك القرمانلي سنة واحدة فقط حيث انقلب عليه أخوه يوسف و عزله و أودعه السجن و تولى الولاية بعده و ذلك سنة 1210 هجري – 1795 ميلادي .

يوسف باشا والياً على طرابلس

كان يوسف متمتعاً بجرأة و شدة بأس.. فهابته الأهالي و الجنود..و استقامت ولايته..ثم راسل والي تونس و طلب منه التوسط لدى مقام الخلافة للموافقة على ولايته لطرابلس فتوسط له و تمت الموافقة من الباب العالي فجَدّ يوسف و اجتهد و رتب الأمور و ساس البلاد و تتبع الأشرار و أجرى إصلاحات عظيمة و أصلح الأسطول و زاده حتى بلغ ( 13 أسطولاً ) يجوب البحار .. و هابته السفن الأجنبية و بنى أبراجأ و قلاعاً حصينة و عمرّ أسواقاً و مهد طرقاً و ازدهرت البلاد في أول ولايته و وسطها ..

يوسف القرمانلي يعين ( نابليون بونابرت ) على احتلال مصر!!

و في عهده أحتل ( نابليون بونابرت ) مصر سنة 1213 هجري - 1798 ميلادي . و كانت بين يوسف و نابليون صداقة .. و لذلك ساعده على غزو مصر ببعض أساطيله .. مقابل ذلك وقف نابليون دائماً في صف يوسف القرمانلي عندما وقعت مناوشات حربية بينه و بين الأسبان و الجنوييين ( الإيطاليين ) و اليونان و الإنجليز.. و خلال ولاية يوسف باشا هاجمت البحرية الأمريكية لأول مرة سواحل طرابلس الغرب ، و قد كان أخوه ( أحمد بيك ) المعزول قد فرّ من السجن و لحق بجزيرة مالطة... فانتهز الأمريكان الفرصة و اتصلوا بأحمد بيك و جهزوه بحملة و أنزلوه بساحل مدينة درنة مزوداً بقوة من جنود البحرية الأمريكية و ذلك سنة 1217 هجري – 1802 ميلادي . ففرح الأهالي و رحبوا بمقدم ( أحمد بيك القرمانلي ) خاصة بعد أن قطع الأمريكان على أنفسهم عهداً بمساعدته حتى يستعيد حُكمَه من أخيه يوسف باشا .. فاحتال يوسف و وسّط والي الجزائر ( حسن بيك ) كما وسّطَ قنصل بريطانيا في طرابلس للمصالحة مع الأمريكان .. و نجحت الوساطة و عُقدت معاهدة صًلح بين يوسف القرمانلي و الأمريكان و بموجبها أقلعت السفن الأمريكية عن درنة بعد أن نقضوا عهدهم مع أخيه ( أحمد بيك ) و اصطحبوه معهم إلى الإسكندرية ثم أهملوه بها ..

يوسف القرمانلي يخضع برقة و فزان لسلطته

أرسل يوسف باشا ابنه ( محمد بيك ) في جيش كبير لمقاومة عمه ( أحمد بيك ) .. فوصل هذا الجيش إلى درنة بعد أن انسحبت سفن الأمريكان منها .. ووفدت إليه العُربان و القبائل حيث جددوا البيعة لوالده يوسف باشا. و في زمن ولاية يوسف باشا تمرد أهل غريان فنبذوا أوامره فأدبهم و أبادهم ، كما ثار الشيخ ( أحمد سيف النصر ) سنة 1221 هجري – 1806 ميلادي ، و نبذ الطاعة و تعرض لبعض السفن في البحر فأرسل إليه يوسف باشا ابنه محمد بيك و حاربه و قتله و أخذ ابنه ( عبد الجليل سيف النصر ) أسيراً إلى طرابلس .. و ثار أيضاً أهل مدينة ( غدامس ) و عصوا ..فحاربهم و أجبرهم على الخضوع .. و في سنة 1227 هجري – 1812 - ميلادي . امتنع حاكم فزان ( محمد الشريف ) عن دفع الزكاة و الضرائب فأرسل إليه يوسف باشا (( محمد المكنى ) و لما قارب فزان اتصل ( محمد المُكنى ) بابن أخي حاكم فزان و قال له : إن تحايلت في قتل عمك و ليتك و جعلتك مكانه.. فذهب هذا و احتال على عمه و قتله غيلة... و لما دخل ( المكنى ) فزان طلب القاتل و أوعز إلى بعض أقربائه بأن يطالبوه بدمه... و أحضروا الشهود فسلمه لهم و قتلوه " و هكذا تفعل الحكام ".

نهاية حكم آل القرمانلي

بعد أن طالت مدة حكم يوسف باشا و كبر و ضعف جسمه و قل تفكيره... اختلت أموره و تجاسرت عليه الدول و القبائل كما ثار عليه الشيخ ( عبد الجليل سيف النصر ) سنة 1242 هجري – 1827 - ميلادي . و ثار عليه كذلك أهل الجبل الغربي .. و بدأت الأمور لديه تتفاقم حيث ناوشته حكومة نابولي و سردينية و جينوة و أسبانيا و فرنسا و بريطانيا : كلهم اتفقوا على التسلط عليه و الحد من سطوته.. و في نفس الوقت نفد ما بيده من الخزانة.. فاضطر إلى تحميل الأهالي ما لا يُطيقون من الضرائب و قسم الولاية بين أولاده فأعطى لأبنه (علي الكبير ) غريان و لأبنه (مصطفى بيك ) مصراته و لإبنه عثمان مدينة الخمس و لإبنه عمر ورفلة و لإبنه إبراهيم ازليتن و لمملوكه مصطفى بيك ( درنة ) فأصبح كل فرد من أولاده يعمل خلاف المصلحة العامة للبلاد.. فساءت الحالة العامة جداً و ثار أهل المنشية على ( يوسف باشا ) و معهم ولده ( محمد بيك ) واستغلت الدول الأجنبية ضعف سلطته..و سقطت هيبته في قلوب القبائل فتنازل لأبنه ( علي بيك ) سنة 1249 هجري - 1833 – ميلادي . بعد أن دام حكمه 39 سنة. فازداد الثوار عتواً و نفورا.. وكان قد وصل إلى طرابلس ( شاكر أفندي ) موفداً من قبل السلطان لـ ( علي بيك ) الذي تنازل له والده ، و لكن شاكر أفندي وجد البلاد في حالة فوضى و وجد عموم الأهالي مُصرين على التخلص من عائلة القرمانلي ، فرجع إلى استانبول و أخبر السلطان ( محمود الأول بن عبد المجيد الأول ) بحالة البلاد فعين الفريق ( نجيب باشا ) والياً لولاية طرابلس الغرب فقدم إليها و معه اثنان و عشرون أسطولا حربياً محملة بالجنود و المعدات و الأرزاق.. فاحتفل علي بيك بقدومه أولاً ثم بعد شهر طلب نجيب باشا علي القرمانلي إلى إحدى المراكب باسم الضيافة.. فلما وصل إليه أمر بإلقاء القبض عليه و نزل بجنوده إلى البر و أعلن ولايته لطرابلس ثم قرأ الفرمان السلطاني بتوليته.. ففرح الناس فرحاً شديداً و لما سمع محمد بيك بن يوسف باشا بمصير أخيه ( علي القرمانلي ) أقدم على قتل نفسه !! و فر أخوه أحمد بيك يوسف إلى مالطة . و أما علي القرمانلي و أتباعه فقد أرسلهم نجيب باشا إلى استانبول . و بذلك انطوت صحيفة القرمانليين و انتهى حكمهم سنة 1251 هجري – 1835 – ميلادي . و ذلك بعد أن دام قرابة ( 126 سنة ) . و سبحان من لا يزول حكمه و سلطانه.

( رحلة الإمام السنوسي الأولى إلى برقة و مصر )

في أول عام 1238 هجري – 1822 – ميلادي ، أستأنف رحلته إلى برقة و قبل وصوله إلى مدينة ( إجدابيا ) مر على نجع شيخ قبيلة المغاربة الشيخ ( علي لطيوش ) فأكرم نُزله و قام بخدمته خير قيام دون سابق معرفة و رافقه إلى ( إجدابيا ) و جهزه إلى واحة ( أوجلة ) فنال بذلك خيراً لم يزل أثره في عقبه .. و لم يمر السيد السنوسي في رحلته هذه على مدينة ( بنغازي ) و لا على المدن الساحلية بل توجه إلى أوجلة و زار صاحب رسول الله ( عبدالله بن سعد بن أبي سرح ) رضي الله عنه و فاز بمعرفته أهل أوجلة قبل غيرهم و منهم الشيخ ( عمر بو حوا الأوجلي ) تعرف عليه و أخذ عنه العلم الشرعي و لحقه بعد ذلك في الحجاز .. و لم يرافقه في طريقه هذه سوى مملوك لسيادته و السيد ( عبدالله التواتي ) الذي لازمه و لم يفارقه منذ أن تعرف عليه ، و أخذ عنه في مدينة الأغواط الجزائرية ، و كان الشيخ محمد بن علي السنوسي يتنقل مع بعض القوافل و يرافقها من مكان إلى آخر حتى وصل إلى مدينة ( القاهرة ) عن طريق الصحراء ، و بمروره على قبيلة المغاربة و نزوله بإجدابيا تعرف عليه كثير من أهالي برقة البيضاء و شاع ذكره الطيب في عموم برقة ، و تحسر الكثير لعدم رؤيته.. و كان وصوله إلى القاهرة متوسط عام 1238 هجري – 1823 ميلادي . إبان حكم ( محمد علي باشا ) مؤسس العائلة الخديوية بمصر .. فنزل في بعض أروقة الجامع الأزهر لكونه لم يظهر أمره بعد.. و فعلاً لم يشتهر إلا بعد اجتماعه بأستاذه السيد ( أحمد بن إدريس العرائشي ) و أخذ العلم عنه في مكة كما سيتضح فيما بعد .. ثم قام بزيارة شيوخه الذين كان قد أخذ عنهم العلم عام 1232 هجري – 1817 ميلادي كما تقدم ذكرهم.. و تردد على حلقات كبار المشايخ أولاً ثم أخذ عن بعضهم و بدأ يشاركهم في التدريس حُسبة لله.. و سمع به طلبة العلم .. فلم يتخلف أحدٌ ممن سمع به حيث وجدوا عنده ضالتهم التي ينشدونها و تغربوا من أجلها .. و بعد إقامته بمصر قرابة سنتين و نصف والى رحلته إلى مكة المكرمة عن طريق الحاجّ الصحراوية و بصحبته حُجاج عام 1241 هجري – 1826 ميلادي . فمر على المحطات الآتية : البركة و البويب ثم عجرد ثم النواطير الأول و الثاني و الثالث و كلها أنصاب في صحراء سيناء الرملية ، فالعلوة ، فجنادل حسن ، فقرية نخل ثم بئر قريص ، و يُقال لها بئر طابة ثم أيله و هي إيلات ( مدين ) ( فالعقبة ) فحقل ثم الشرفا فمغاير شعيب و عيون القصب ثم المويلح ثم سلمى فاصطبل عنتر ثم الوجّة فعكرة و الحنك فالحوراء فالخضيرة فينبع البحر ثم الشعيفة فمستورة فرابغ فبئر الهندي ثم القضيمة فخليص فعسفان فقديد فمر الظهران فمكة المكرمة .. و ما بين مكة و مر الظهران مقام أم المؤمنين سيدتنا ( ميمونة الهلالية ) رضي الله عنها في منتصف الطريق ، و كذلك قبل دخول مكة بنحو خمسة فراسخ توجد قرية التنعيم و هي محل العُمرة بالنسبة لسكان مكة و هذا المكان هو الذي اعتمرت منه أم المؤمنين سيدتنا ( عائشة ابنة أبي بكر الصديق ) رضي الله عنها .. و ما بين التنعيم و مكة محل يُسمى في الوقت الحاضر الشهداء و هذا المكان هو( فخ ) الذي وقعت فيه مقتلة الحسنين ( سلالة الحسن بن علي بن أبي طالب ) أيام الخليفة ( محمد الهادي العباسي ) و التي بسببها فر السيد ( إدريس الأكبر ) ابن عبد الله الكامل إلى المغرب..و كانت فاجعة عظيمة فني فيها الكثير من الحسنيين و الحسينيين ( سلالة الحسين بن علي رضي الله عنهم أجمعين ) .

( وصوله إلى مكة المكرمة )

كان وصول السيد محمد بن علي السنوسي إلى مكة المكرمة في النصف الأول من شهر ذي القعدة عام 1241 هجري – 1826 ميلادي . و كان السيد السنوسي قد نذر لله تعالى وقف نفسه الشريفة على خدمة الكعبة المشرفة إذا سخر الله له و عاد إليها تقرباً إلى الله تعالى و تواضعاً له و مجاهدة لنفسه الشريفة .. و كان عازماً على المضي في ذلك .. غير أن الله تعالى رفع قدره الشريف و هيأه لما هو أعم و أنفع .. و من تواضع لله رفعه ، فاجتمع بعد وصوله مكة المكرمة بنخبة العلماء و الأولياء الجامع ما بين الطريقة و الحقيقة مُربي المريدين و مُحي سنة جده الأمين ذي المدد النفيس السيد ( أحمد بن عبد الله بن إدريس ) رحمه الله.. فأخذ عنه و انقطع إليه بعد أن قام بوفاء نذره و اشترك في خدمة الحرم الشريف بقدر ما يسر الله له.

( ولادة السيد الإمام أحمد بن إدريس و نشأته )

كانت ولادة هذا الحَبرُ العظيم عام 1163 هجري – 1750 ميلادي . ببلدة ميسور أو ببلدة العرائش التابعة لسلطنة فاس و مراكش و كان لهذا الإمام العظيم شأن كبير حيث نشأ أولاً في موقع رأسه الشريف " العرائش " و بعد أن ترعرع و حفظ القرآن العظيم و كثيراً من المتون و نال قسطاً وافراً من العلوم و بلغ العشرين من عمره انتقل إلى بلدة فاس عاصمة السلطنة المغربية إذ ذاك و انتسب إلى جامع القرويين بها ، و مكث يطلب العلم أولاً ثم يدرِّس ثانياً نحواً من ثلاثين عاماً .. إلا أنه كان يرحل أحياناً أثناء دراسته هذه إلى بعض الشيوخ الكبار في بعض ملحقات فاس للأخذ عنهم ، و لم يترك في زمنه أحداً من الشيوخ المعتبرين و الذين عاصرهم إلا و رحل إليه و أخذ عنه العلم .. و هؤلاء شيوخه رضي الله عنه و عنهم.

( شيوخ الإمام أحمد بن عبدالله بن إدريس بفاس و بلاد المغرب )

أولهم الإمام المُحدث الكبير الشيخ محمد التاودي بن سودة المتوفي سنة 1209 هجري – 1795 ميلادي . و الشيخ محمد أبو عبد الكريم الذهبي المتوفي سنة 1199 هجري. – 1785 ميلادي . و الشيخ عبد القادر بن أحمد العربي بن شقرون المتوفي سنة 1216 هجري – 1801 ميلادي . و الشيخ المجيدري الشنقيطي ، و كان شيخه في السلوك أولاً ثم كان خاتمهم بفاس الشيخ الكبير عبد الوهاب التازي و هو الذي تمّ أمره و علا شأنه على يده إذ كان عمدته في كافة مروياته ، و كان الشيخ عبد الوهاب التازي - قبل أن يعرفه السيد أحمد بن إدريس - يحضر كمستمع في حلقة السيد أحمد بن إدريس و كان يعجبه صوته كما تعجبه طريقة تدريسه ، و كان السيد أحمد بن إدريس يرجع في أموره و مشاوراته و سلوكه إلى الشيخ المجيدري الشنقيطي ، و كان المجيدري تلميذاً للشيخ عبد الوهاب التازي .. و صادف أن عرضت مسألة للسيد أحمد بن إدريس فاستشار فيها شيخه المجيدري فقال له : حتى أشاور شيخي التازي .. فقال له السيد أحمد بن إدريس ألك شيخ أكبر منك؟ قال نعم! شيخي و عمدتي هو الشيخ عبد الوهاب التازي ، فقال له : إذن اجمعني به .. فأتى المجيدري إلى التازي و أخبره فقال له ذات مرة : ليأتيني... فجاءه الإمام أحمد بن إدريس و أخذ عنه العلم و انقطع له كلياً ، و كان يلازم طريقة الحياء معه و لا يرفع صوته عنده .. فكان الشيخ التازي يقول له أحياناً : وين تلك الهدرة يا أحمد.. ويعني بذلك نبرات صوته لما كان يُدرِّس ببلدة تازة من بلدان المغرب الأقصى قرب حدود الجزائر ، و كانت مدينة علم و رخاء و لا تزال كذلك . و بعد ملازمة السيد أحمد بن إدريس للشيخ عبد الوهاب التازي مدة مباركة قدر الله و تُوفي رحمه الله. و بعد وفاة العلاَّمة التازي لازم السيد أحمد بن إدريس الشيخ أبا القاسم الوزير ، و كان من الصالحين الكبار و ذوي المقامات العالية إلا أنه كان متستراً .. غير أن المدة لم تطل ، فتوفي الشيخ أبو القاسم الوزير ، و بعد وفاته عقد السيد أحمد بن إدريس العزم على التوجه إلى جهة المشرق و الحجاز ليتزود بعلوم أكثر و ليقضي فرضه و يتشرف بزيارة جده الأعظم سيدنا محمد و ليهاجر إلى الحرمين الشريفين.
( رحلة السيد أحمد بن إدريس من فاس إلى المشرق )

بدأت رحلته من فاس أواسط عام 1212 هجري – 1797 ميلادي . و مر في طريقه على الجزائر و تونس و طرابلس و بنغازي .. كل ذلك سيراً ، و كان طريق البر من بنغازي إلى حدود مصر تَحُفُهُ المخاطر من بعض الأعراب المتحاربين.. لذلك قرر الركوب بحراً من بنغازي إلى الإسكندرية بعد أن مكث في بنغازي مدة من الزمن تعرف أثناءها على بعض العائلات و ألقى دروساً في بعض مساجدها و أثنى على أهلها و على أهل الجبل الأخضر و برقه و قال فيهم " هذه بلادنا ..فيها تحيا أورادنا.. حيها سعيد و ميتها شهيد .. طوبى لمن أراد الخير بأهلها و ويلٌ لمن أراد الشر بأهلها " و كانت إشارته هذه إلى السيد محمد بن علي السنوسي حيث هو الذي أخذ عنه و هو خليفته الذي أحيا علومه و أوراده.. ثم أبحر من بنغازي عام 1213 هجري 1798 – ميلادي . بمركب شراعي إلى الإسكندرية ، و عند وصوله إليها و نزوله بالجمرك كانت معه كُتبٌ ثمينة قيمة لا تُفارقه لحظة و لا يرضى بها بديلاً .. فجاء المفتشون بالجمرك و سألوه عنها و كانت الكتب داخل أكياس محكمة القفل لأجل الحمل في السفر ، فقال لهم : هذه كُتُب..فأخذوا يطعنون الأكياس بأسياخ الحديد المجوفة و هو يصيح و يقول لهم " حرام ٌ عليكم لا تمزقوا كتبي " فلم يلتفتوا إليه .. عند ذلك رفع يديه إلى السماء و قال : يا رب.. جيب لهم النصارى .. أي سلط عليهم النصارى . و قد استجاب الله دعاءه فلم تنتهي تلك السنة حتى دخلها القائد الفرنسي نابليون بجيوشه سنة 1213 هجري – 1798 – ميلادي . و استولى على الإسكندرية و سواحلها .. و بعد وصول الإمام إلى القاهرة توقف بالأزهر مدة يسيرة قام خلالها بإلقاء بعض الدروس في جامع الأزهر .. فأُعجب به كل من حضره و سمع عنه .. و لذلك أخذ عنه شيوخٌ كثيرون ، و رافقه بعضهم إلى الحجاز .. ودخل مكة آخر عام 1213 هجري – 1799 ميلادي . و مكث في الحرمين الشريفين ما بين مكة و المدينة و الطائف قُرابة ثلاثين عاماً قضاها في التدريس و نفع العباد و إرشادهم إلى الطريق المستقيم و دعوتهم للعمل بما يوجبه عليهم دينهم الإسلامي الحنيف.. هذا و قد خرج الإمام بن إدريس من مكة قاصداً الصعيد بمصر لغير مرة ..قام خلالها بالدعوة إلى الله .. و أخذ العلم في الصعيد عن الشيخين الجليلين ( حسن بن حسن الفنائي ) و ( محمود الكردي ) .. ثم عاد إلى مكة المكرمة دون إقامة طويلة و إنما كانت جملة إقامته في الصعيد حوالي خمسة أعوام . و لم يبق خلال هذه الفترة عالم من علماء الحرمين الشريفين أو ممن يفد على الحرمين إلا و تتلمذ عليه و أخذ عنه .. و ممن أخذ عنه الشيخ محمد بن عثمان المرغني " مؤسس الطريقة المرغنية " و الشيخ إبراهيم الرشيدي مؤسس الطريقة الرشيدية و الشيخ محمد حسن ظافر المدني الدرقاوي و الشيخ محمد عابد سندي صاحب الأسانيد المُسمّاة " حصر الشارد في أسانيد محمد عابد " و منهم الشيخ ( محمد الصاوي الخلوتي ) خليفة الشيخ " دردير " و منهم العلامة عبد الرحمن بن سليمان الأهدل مفتي زبيد ، و منهم الشيخ عبد الرحمن بن أحمد البهكلي قاضي بيت الفقيه و منهم أحمد بن عبدالله صائم الدهر و منهم العلاّمة أحمد بن محمد الديلمي من قضاة زُبيد و الشيخ سليمان بن أبي القاسم الأهدل و العلامة عبد الكريم العنسمي .. و غيرهم ممن لا يُحصون .. و تخرج على يديه أعلامٌ خدموا هذا الدين الإسلامي الحنيف – جزاه الله عن المسلمين خير الجزاء - و أثناء وجوده بمكة سنة 1218 هجري – 1803 – ميلادي . دخلها السعوديون و كانوا يطلقون عليهم " الوهابيون " لإتباعهم الشيخ ( محمد بن عبد الوهاب ) داعية نجد ، و كان أميرهم إذ ذاك الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود.. ثم خرجوا من الحجاز و بعد وفاة الأمير عبد العزيز بن محمد بن سعود عام 1220 هجري – 1805 - ميلادي. تولى ابنه الإمام سعود الكبير بن عبد العزيز بن محمد بن سعود و دخل الحجاز ثانياً عام 1221 هجري – 1806 – ميلادي . و مكث السعوديون بالحجاز سبع سنوات.. ثم حاربهم حاكم مصر ( محمد علي باشا ) بأمر من الحكومة العثمانية و أخرجهم عام 1228 هجري – 1813 – ميلادي . وكان أمير مكة إذ ذاك من الأشراف و اسمه الشريف ( غالب بن مساعد ) .

( دخول الأمير سعود بن عبد العزيز لمكة و لقائه السيد أحمد بن إدريس )

كان للسيد أحمد بن إدريس أتباع كثيرون..و كان بعضهم قد تصدى للرد و القدح في معتقد الشيخ ( محمد بن عبد الوهاب ) فلما قدر الله و جاءت الجيوش السُعودية لاحتلال مكة ، قال هؤلاء العلماء للسيد أحمد بن إدريس: أُخرج بنا من مكة لأنهم إن وجدونا بها بطشوا بنا ، فقال لهم : إنني لا آمر أحداً منكم بالخروج من مكة و لا أنهاه .. غير أني أقول لكم : من بقى فلن يلحقه إلا الخير إن شاء الله تعالى.. , أما أنا فإني مقيم بمكة و لن أخرج منها.. فهرب بعضهم و بقي البعض الآخر .. و بعد وصول الأمير سعود و دخوله مكة ، و قد كان شديداً و متعصباً لمذهبه .. جاءه السيد أحمد بن إدريس حسب العادة للتهنئة و السلام عليه.. فقابله بن سعود بحفاوة بالغة و أكرمه إكراماً عظيماً و ألبسه مشلحاً بيده ثم قال له : يا شيخ كنا أحق بزيارتك و ما كنت لتكلف نفسك.. ثم اصدر أوامره إلى كافة حاشيته بعدم التعدي على أحدٍ من أتباع السيد بن إدريس.. كما عفا عن أصحابه الذين كانوا يطعنون في معتقد الشيخ ( بن عبد الوهاب ) و كان الإمام سعود الكبير هذا قد أمر بتقتيلهم من قبل و لو وجدوا متعلقين بأستار الكعبة ..فعفا عنهم و حقن دماءهم .. و هذه سجايا آل سعود و مكارم أخلاقهم التي ورثوها عن أوائلهم و هي العفو عند المقدرة و ألا يؤاخذ المسيء بإساءته ، و قبول عذر المعتذر مهما كان ذنبه .. و بذلك مكن الله لهم في البلاد و سخر لهم القلوب و العباد ، و الله لا يضيع من أحسن عملا.. فتعجب الناس لهذا التسخير الإلهي.. ثُم إن السيد أحمد بن إدريس أمر أتباعه بعدم المجادلة أو المناظرة مع أي إنسان .. و إذا سُئلوا عن أي قول أو مذهب يقولون : لا إله إلا الله فقط. و صار هذا ديدنهم مدة وجود السعوديين بمكة و هي الفترة من 1121 هجري – 1709 ميلادي . إلى غاية عام 1228 هجري – 1813 – ميلادي.
( عود إلى رحلة السيد محمد بن علي السنوسي )

بعدما أن وصل مكة و استقر بها كما تقدم ذِكره أي آخر عام 1241 هجري – 1826 ميلادي . و أخذ العلم عن السيد أحمد بن إدريس و انقطع إليه إنقطاعاً كلياً بظاهره و باطنه.. و امتزجا امتزاجاً روحياً كاملاً.. فقد صارح السيد ( أحمد بن إدريس ) كافّة أتباعه و تلاميذه بأنه خلف عنه تلميذه الوقور السيد ( محمد بن علي السنوسي ) و أنابه عنه في حالة حضوره و غيابه و موته و حياته .. و صار يقول لهم : ابن السنوسي أنا و أنا ابن السنوسي فمن تبعه تبعنا و من خالفه خالفنا . و كان هذا التصريح يحرك غيرة بعض تلاميذه و يثير منافستهم في مناسبات كثيرة. و في عام 1242 هجري – 1827 ميلادي . عَنَّ للسيد أحمد بن إدريس الخروج من مكة إلى جهة اليمن حيث كثر تلاميذه و أتباعه بها ، و قد أكثروا من إلحاحهم على سيادته لزيارة بلدانهم و وطنهم لنشر علومه بها ، فكان يستخير الله في ذلك مرات عديدة .. فرأى من الإشارات ما يشجعه على السفر ، و فعلاً تجهز و خرج من مكة بعد أن مكث بها بما تقدم ذكره.. و بعد أن ترك في الحرمين الشريفين آثاراً خالدة إلى يوم القيامة و كوَّن رجالاً خدموا الدين الإسلامي خدمة صحيحة مفيدة ، و كان الإمام ( بن إدريس ) كثير الزواج كما كان الناس يتبركون و يتشرفون بمصاهرته ، و لقد أنجب كثيراً من الأولاد غير أنهم كانت لا تُكتب لهم الحياة.. و قد سمعت من أستاذي المجاهد العظيم ( أحمد الشريف السنوسي ) قوله : دفن السيد ( أحمد بن إدريس ) في مقبرة المُعلا بمكة ستين ولداً ذكراً من صُلبه.. و لم يعش له إلا السيد محمد الملقب بالغوث و المولود ببلدة الطائف عام 1218 هجري – 1803 ميلادي . و في آخر حياته رُزق بولد سماه ( عبد العال ) و ثالثاً صغيراً أسماه مصطفى و قد توفي صغيراً . و لما عزم السيد أحمد بن إدريس على الخروج من مكة إلى اليمن تعلق به أتباعه و معظم تلاميذه و منهم الإمام محمد بن علي السنوسي ..و ساروا معه مراحل حتى وصل إلى بلدة الليث التي تبعد عن مكة أربع مراحل جهة اليمن فتوقف فيها و جمع تلاميذه المتعلقين به من الحجاز و غيره وقال لهم : ابن السنوسي منا و نحن منه و هو خليفتنا و القائم مقامنا .. فمن أراد منكم أن يرجع معه فليرجع ، و من له القدرة على السفر و أراد مرافقتنا فليفعل.. ثم أمر خليفته ( محمد بن علي السنوسي ) بالرجوع إلى مكة و أمره أن يقوم مقامه في كل ما له و عليه من نشرٍ لدعوته و تعليم تلاميذه .. ثم أهدى له جارية حبشية هي السيدة ( خديجة الحبشية ) رحمها الله و التي أنجب منها أربعة عشر ولداً ذكراً و لكنهم لم تُكتب لهم الحياة حيث كان أغلبهم يولد سقطاً و كلهم مدفونون بمقبرة المعلا بمكة المكرمة .و كانت من الصالحات القانتات ، و كانت ترافق السيد السنوسي في أسفاره و تتحمل المشاق في خدمته و تمريضه و لم تفارقه لا في سفر و لا في حضر حتى سفره الأخير إلى برقة حيث أبقاها في المدينة المنورة و التي توفيت بها ؛ و كانت السيدة خديجة هذه قد بشرت السيدة والدة (محمد المهدي السنوسي ) و شقيقه ( محمد الشريف السنوسي ) بأنها سوف تنجب و قالت لها : إني رأيت في المنام زوجي ابن السنوسي و قد أعطاني سوارين من ذهب و أعطاكِ سوارين من فضة .. فعرفت أنّ من تنجبيه يفُضُ و يكبر .. و أن ما أنجبه أنا يذهب.. و فعلاً كان ذلك بأمر الله ، و قد كان من صفاتها أيضاً أنها كانت حادة المزاج سريعة الإنفعال مُستجابة الدعوة.
نعود إلى رحلة السيد محمد بن علي السنوسي ، فبعد أن ودع شيخه السيد أحمد بن إدريس رجع إلى مكة مع من رغب الرجوع من الإخوان ، و عند وصوله مكة بدأ سيره و عمله على نهج أستاذه و هديه و طريقه حذو القذة بالقذة دون زيادة أو نقصان و نزل في وسط جبل أبي قبيس حيث كان شيخه نازلاً ... بعد ما نزل السيد السنوسي في وسط جبل أبي قبيس الذي كان خالياً من البيوت و السكان.. كان سكناهم في عُشٍ من القش و الجريد و الخوص .. و قد أرهقهم الحر و المطر و البرد.. لذلك استخار الله تعالى في إقامة بناءٍ لأنهم كانوا يتحاشون إقامة المباني في الأماكن المرتفعة فوق سطح الكعبة المعظمة .. فرأى رضي الله عنه ما يشرح صدره للبناء.. فشرع في بناء المسجد بمساعدة إخوانه و تلاميذه في آخر عام 1243 هجري – 1828 ميلادي . كما أقام بجوار المسجد خلوات للإخوان الغرباء و المنقطعين من طلاب العلم و قد سُمِّيَ هذا المسجد و ما يتبعه بزاوية جبل أبي قبيس و هي أول زاوية أسسها الأستاذ الإمام محمد بن علي السنوسي .


( إمارة الأدارسة باليمن .. و علاقتها بالحركة السنوسية )

غادر الإمام ( أحمد بن إدريس ) الحجاز في سفينة شراعية عام 1242 هجري – 1826 ميلادي . نحو اليمن لنشر الدعوة الإسلامية و توعية المسلمين بأمور دينهم .. و خلال أربعة أعوام لم يترك الدروس و الوعظ و الإرشاد يوماً واحداً ...حتى عمَّ نفعه للخاص و العام ، و كان يقوم أيضاً بدور الإصلاح بين القبائل المتنازعة .. و أثناء ترحاله لنشر العلم و الدعوة إلى الله ؛ حط رحاله ببلدة ( أبي عريش ) و كان أمير تلك المنطقة هو الشريف ( علي بن حيدر بن حمود ) من الأشراف ، فأكرم نُزُل السيد ( بن إدريس ) و هيأ له كل أسباب الراحة و الإستقرار . و لذلك آثر الإقامة في بلدة ( صبيا ) بالقرب من أبي عريش ، و هناك اجتمعت عليه أممُ كثيرة ، و لقد غلب الجهل بالدين و الشرع على أكثر أحوال تلك الجهة ،و لم يبق لهم من الإسلام إلا اسمه و من المصحف إلا رسمه .. ولذلك كرس الإمام بن إدريس جهوده في المساجد و المجتمعات و في بيته حتى كونَّ نخبة مباركة ً من طلاب العلمِ حملوا الأمانة من بعده عملاً بكتاب الله و بالتي هي أحسن ... و هناك وفد إليه تلميذه و خليفته ( محمد بن علي السنوسي ) من مقر إقامته بمكة مراراً .. و كان يُرتب له قافلةً من مكة تخرج على رأس كل شهر تحمل للشيخ بن إدريس ماء زمزم و كل ما هو ضروري لسيادته طيلة مُكثه في (صبيا ) و التي دامت تسعة أعوام ، و قد كانت وفاة الإمام ( بن إدريس ) في ( صبيا ) سنة 1253 هجري – 1837 – ميلادي . و لم يحضر السيد محمد بن علي السنوسي وفاة شيخه السيد ( أحمد بن إدريس ) و بعد وفاته رجع من كان معه من الإخوان إلى مكة. و ممن لحق بالإمام السنوسي بمكة و رافقوه في رجوعه إلى برقة و لازموه مدة حياته الشيخ محمد الشقيع و محمد بن عبد الله السٍني و أحمد أبو القاسم التواني و الشيخ عمر بو حوا الأوجلي . ثم استمر أحفاد الإمام أحمد بن إدريس في نشر العلم الشرعي .

الأمير( محمد بن علي الإدريسي )

مؤسس إمارة الأدارسة باليمن

و لقد برز منهم على الساحة السياسية السيد ( محمد بن علي الإدريسي ) مؤسس إمارة الأدارسة باليمن .. فقد اشتغل بطلب العلم في ( صبيا باليمن ) ثم انتقل إلى الأزهر بالقاهرة و أتم فيه دراسته الشرعية ، ثم ارتحل إلى واحة الجغبوب بليبيا و منها إلى الكُفرة حيث إقامة الإمام ( محمد المهدي السنوسي ) فزاره بها و مكث عنده مدة يتتلمذ على يديه ..ثم عاد إلى صعيد مصر حيث زار أبناء عمومته آل السيد ( عبد العال الإدريسي ) بمنطقة ( الزينية ) ثم كانت عودته إلى مسقط رأسه باليمن عام 1323 هجري – 1905 – ميلادي . و كانت عودته بطلبٍ مُلحٍ و سريع من والده و مُريديه و مُحبيه و شيوخ القبائل .. و بعد وصوله بقى مع والده قرابة عامٍ و نصف ، ثم تُوْفي والده ( علي بن محمد بن أحمد بن إدريس ) . قام بعد ذلك السيد محمد مقام والده بالدعوة إلى الله و الإرشاد .. فغار منه الأتراك الموجودون بمنطقة ( جيزان و عسير و الحُدَيدة ) و أرادوا الكيد به و إلقاء القبض عليه و من ثَمَّ إرساله إلى استانبول مركز الخلافة .. فحال دونه أهل تِهامة قاطبةً و حاربوا الأتراك حتى أجلوهم من تلك الجهة ... و أقاموا السيد ( محمد بن علي الإدريسي ) أميراً عليهم ، و بذلك تأسست الإمارة الإدريسية و توسعت حتى بلغت نجران و الحُدَيدة و عسير .. و حتى قُرب منطقة القُنفدة من ناحية مكة .. و لذلك تضايق من اتساع نفوذ الإمارة الإدريسية كل ُمن إمام اليمن و أمير مكة .. هذا و قد استمرت إمارة الإمام ( محمد الإدريسي ) أربعة عشر عاماً ثم كانت وفاته سنة 1341 هجري – 1923 – ميلادي . فتولى إبنه الأكبر ( علي بن محمد الإدريسي ) و بقي في الإمارة ثلاثة أعوام ..ثم تنازل لعمه ( الحسن بن علي الإدريسي ) و الذي استمرت إمارته سبعة أعوام ..ثم ما لبثت إمارة الأدارسة في اليمن أن اضمحلت بعد عدة عوامل يطول شرحها و يضيق بنا المقام لسردها.. فهاجر بعدها السيد ( الحسن الإدريسي ) و كافة العائلة الإدريسية باليمن إلى مكة و هم الآن مقيمون بها و هم فَرْعُ السادة الأدارسة باليمن . نفع الله بهم و جعلهم شجرة صلاح و فلاح مباركة إلى يوم الدين.